إن الأساس في هذا البطل الاحتفالي أنه لا يعيش إلا حياته، وأنه لا يقول إلا كلامه، وأنه لا يغضب إلا للحق وحده، وأنه لا يختار إلا إنسانيته، وأنه لا ينحاز إلا لمدنيته، وأنه لا يحيا إلا حيويته، والتي هي عنوان حياته بين الأحياء، وأنه لا يمكن أن يكون إلا حيث يكون الناس، وهو مطالب بأن يحول الرياح إلى أرواح، وأن يترجم النار إلى نور، وأن يكسو الأرواح المجردة عظما ولحما، وأن يضخ فيها دماء حية، وأن يعطيها رسمها وأسماءها، وأن يحول الرقاد إلى يقظة، وأن يرتقي بهذه اليقظة إلى درجة الحلم، وأن يخرج بهذا الحلم من المتخيل إلى المحسوس، ومن الغامض والملتبس إلى الواضح والصريح والفصيح، وأن يجعله عوالم مادية حقيقية، عوالم لها طول وعرض وعمق، ولها أصوات وأصداء، ولها أضواء وظلال، ولها أشكال وألوان، وأن يؤسس لهذه العوالم الجديدة كواكبها وأكوانها الممكنة الوجود، وأن يجتهد من أجل أن يشرك كل الناس في حلمه المشروع هذا، وأن يقتسم معهم رؤيته ورؤاه، وأن يشركم في طريقه، وأن يحول حالة الكسل لدى بعضهم إلى فعل حقيقي، وأن يكون هذا الفعل معناه الاجتهاد أو الابتكار أو التجديد، وأن يجعل من حال الخضوع جهادا ومجاهدة، وبالإضافة إلى كل هذا، ألا ينشغل هذا البطل الاحتفالي بقشور الأشياء والأسماء عن جوهرها ولبها، وألا يشتغل في عالم الفكر والإبداع بالاقتباس و(الترقاع) وذلك بدل أن يمارس فعل الإبداع الحق، وألا يمنعه زحف بعض الكائنات على بطنها من أن يحلق عاليا في السماء.
إن هذا المناضل المبدع، كما نراه ونتمثله في الرؤية الاحتفالية، هو ساحر أولا، وهو يمارس هذا السحر المشروع والحلال باقتناع العالم، ويقاربه بعشق الصوفي، وهو شاعر ثانيا، مثل أمه الحياة، ومثل أخته الطبيعة، وهو مهندس ثالثا، وفي عمله العلمي والإجرائي هذا يحضر العقل، ويحضر الخيال، وتحضر صورة الأشياء قبل أن تتحقق هذه الأشياء على أرض الواقع، وهو حكيم رابعا، ولكنه ليس حاكما، وهو حقا صاحب سلطة، ولكن سلطته رمزية وليست مادية، وتلك هي المصيبة بكل تأكيد، أو لنقل، تلك هي المفارقة الغريبة والعجيبة وكفى، وهذا وجه الخلل الأكبر والأخطر في منظومة الوجود والموجودات، وهو مغامر خامسا، وهو مغامر نعم، ولكنه ليس مقامرا، لأنه في مغامراته الفكرية والجمالية والرمزية لا يرتجي ربحا ماديا، وهو لا يرجو غير تجديد صور الوجود، صوره فقط، أما روحه فهو لا يقبل التجديد أبدا، لأنه المحور التي تدور حوله الدائرة، ولأنه المحرك الذي يحرك ولا يتحرك، وهو عراف سادسا، له عينا زرقاء اليمامة، وله حدس ترزياس الأعمى، وهو يحمل مصباح ديوجين في الدروب المظلمة والمعتمة، وبالإضافة إلى كل هذا، فهو كائن إنساني ومواطن مدني، وهو ينتمي إلى أهل المدينة الفاضلة، وهو مقتنع ـ فكريا ووجدانيا ـ بأن هذه المدينة ـ الحلم لها وجود حقيقي، وبأن وجودها ضروري وحيوي جدا، وذلك حتى تستقيم الأشياء في هذا العالم المضطرب المقاييس والمختل المعايير والمهتز القيم، وهو يشتغل بالعلم والفكر والفن وبالشعر والفلسفة وبالصناع، ويعيش على مبعدة من السياسة والرياسة، لاقتناعه بأن (آفة أهل العلم حب الرياسة) وبأن مثل هذا الحب، عندما يزيد عن حده، فإنه لا بد أن يصبح عطبا نفسيا، وأن يتحول إلى مرض عقلي، وأن يتحول إلى وباء عام يمكن أن يصيب المجتمعات في أهم واخطر ما لديها.
هذا المناضل الاحتفالي يعشق الحياة عشقا صوفيا، ويعتبر أن هذه الحياة هبة ربانية، ويعتبرها أمانة ومسئولية، يمكن أن يسأل عنها أمام ذاته وأمام المجتمع وأمام التاريخ وأمام الله، وهو يعشق فيها صورتها الأسمى والأنقى والأبقى والأجمل والأكمل، وهو يرى أن أخطر ما يتهدد الحياة والحيوية هو الآلية والمكننة والأمراض والأوبئة والأعطاب التي تأتي على رأسها الحروب القاتلة والمدمرة، وبذلك فقد اختار الأعياد والاحتفالات ليحافظ لهذه الحياة على أنبل ما فيها، أي على الآنية والتلقائية، وعلى الصدق والشفافية، وعلى الحيوية النفسية والذهنية والروحية الجوانية أولا، وعلى الحركية الذاتية، وعلى حرية هذه الذات في التعبير عما في الداخل تعبيرا صادقا وحقيقيا، وتتحقق هذه الحيوية الاحتفالية من خلال ترجمة السكون إلى حركة، وأن تكون هذه الحركة جزء أساسيا وحيويا من حركية الطبيعة، ومن حركية الكون، ومن حركية التاريخ، وبهذا فقد كان مطلوبا دائما أن يحول الظلمة إلى ضياء، وأن يحول النار إلى نور، وأن يحول المنغلق إلى منفتح، وأن يحول الفعل الآني العابر والمنفصل إلى فعل أبدي وسرمدي متواصل، وهو يؤمن بالحق في الفرح، ويرى أن سويعات الهناء والسرور، على قلتها، يمكن أن تمحو كل قرون الشقاء، وأن الأصل في هذه السويعات الهاربة والمنفلتة أنها ( تختلس من بنك الزمن اختلاسا) وهو مقتنع فعلا بأن (السرقة فعلا حرام، ولكن، يستثنى من هذا الحرام شيء واحد أوحد، وهو سرقة اللحظات الممتلئة بالفرح)
وإذا كان برمثيوس قد سرق النار من الآلهة، وأهداها لبني البشر، فإن المبدعين الاحتفاليين يسرقون من الأيام والليالي ساعات صادقة من الفرح ومن التعييد ومن الإمتاع والمؤانسة، ويهدونها إلى الناس، لكل الناس.
وأخوف ما يخافه هذا الاحتفالي المبدع، هو أن يتقولب في القوالب المذهبية، أوفي القوالب الحزبية والسياسية، أو في القوالب العشائرية والشعوبية، وأن يسجن نفسه ـ باسم العلم والموضوعية ـ في المناهج ( العلمية) القبلية والمدرسية الجامدة والعامة، وهو يحرص على أن يبدع وجوده أولا، وعلى أن يكون صيرورة متدفقة ومتجددة دائما، وعلى أن يكون سيولة وجودية تأبي أن تتجمد في المحيطات المذهبية والمعرفية والجمالية والأخلاقية الجامدة، أو أن تتحجر مع التماثيل والأصنام الحجرية، وهو حريص على ألا يفقد الإيمان الصادق بالحياة، وعلى ألا يتنكر لروح هذه الحياة، وعلى ألا يكفر بالجمال وبالحق والحقيقة وبالعدل والفضيلة، وعلى ألا يقفز على كل القيم الجميلة والنبيلة التي شرعتها السماء، والتي أقرها العقل، وأقرها الحس الإنساني السليم، وذلك في المجتمعات السليمة وفي الحقب التاريخية السليمة.
في الإبداع الاحتفالي يحضر العيد والكرنفال دائما، ويكون الأول حقيقيا وصادقا، ويكون الثاني مزيفا ومضللا وكاذبا، ففي الأول يحضر اللباس والكساء، وفي الثاني يحضر الزي، وفي الأول تحضر الوجوه، وفي الثاني تحضر الأقنعة، وفي الأول تظهر الوجوه بألوانها، وفي الثاني تظهر بأصباغها، وفي الأول تحضر الحياة وفي الثاني يحضر التمثيل والمحاكاة، وأول بند في الميثاق الاحتفالي هو المتعلق بإنسانية الإنسان وبحيوية الحياة وبمدنية المدينة وبجمالية الجمال وبقدسية الحق والحقيقة.